بشغفٍ وحماسٍ كبيرين، قرأتُ مختارات "عالمٌ أعمى" للشاعر شربل بعيني، عميد الأدب في المهجر. إنها قصة عالمٍ يُعاد ابتكاره.
تجمع هذه المختارات قصائدَ ذات كثافةٍ نادرة، يمتزج فيها الإلهام الغنائي بتمردٍ داخليٍّ عميق. تُوضّح هذه القصائد المعنى، وتُعزّز قوة الصور، وتُضفي سلاسةً على الإيقاع، مع الحفاظ على روح الشاعر الغنائية، المُلتزمة، والحميمة، حيث يتشابك الألم والعدالة والثورة والأمل:
هَاك الْحَاكِمْ يَللِّي تْرَبَّعْ عَ الْعَرْشْ
وْسَحْرِتْنَا وْعُودُو:
"بْخَلِّي بْلاَدِي تْصِيرْ حْكَايِه،
بْغَطِّي الْفقْر بْشَرْشفْ أَبْيَضْ،
بِزْرَعْ خُبْز بْتِمّ النَّاسْ.."
خَانْ بْلاَدُو
وْخَان النَّاسْ
الْـ تِعْبُوا فِيهَا وْمَا خَلُّوهَا
تِشْعُرْ لَحْظِه إِنُّنْ تِعْبُوا!
كل نصٍّ هو تعويذة، صرخة، دعاء، أو صرخة، مُشبعةٌ دائمًا بقوةٍ تعبيريةٍ مؤثرة، حيث تتشابك العاطفة والألم والعدالة والثورة. يحمل كل سطرٍ من القصائد في طياته نفحةً من الأمل المُحتمل، بكثافةٍ دراميةٍ كبيرة، يمزج الألم والعدالة والثورة:
شُو صَارْ.. تَا سَمْع اللَّيَالِي خَفّ،
وْمَا عَادْ يِحْضُنْ وَشْوَشَات الْعَاشْقِينْ
وِيْدَارِيَا،
وِيْقُولْ: يَا أَهْلاَ فِيَا؟!
شُو صَارْ؟!..
وْتَمْتَمْ طفل كَمْشِةْ حَكِي:
مَات الْهَنَا بْلَيْل الدَّمَارْ
وِتْطَلَّعْ بْوِجِّي.. وْبِكِي.
تجمع هذه المختارات قصائد قوية ومؤثرة، غنية بالرمزية والعاطفة. إنها قصائد تتمتع بقوة تعبيرية هائلة وروح ثورية آسرة. أبياتها كثيفة وواضحة.
يتلألأ الأمل دائمًا كما لو كان بين القصب على ضفاف بحيرة. إنها متماسكة، وبفضل سلاسة إيقاعها، وتأثيرها الشعري، وسهولة قراءتها، وقوتها، تخلق تجربة غنية:
طِيَّرْتِكْ عُصْفُور زْغيرْ
ريشاتُو نِفْنافْ التَّلْج
وْعِلَّمْتُو يْغَنّيلِكْ شِعْر
مُشْ سامِع متلُو فَنَّانْ
بَرْكي بْيِحْملّي شِي "أُوف"
مِنْ صَوتِكْ.. مِنْ سِحْر فْنُونِكْ
يا هالصّرْخه الْـ ما بِسْمَعْها
يا هالْفَرْحه الْطايرْ مَعْها
يا عُمْري الْـ عَمْ عِيشُو فيكي
لَوْ غِبْتي سْنيني بْضَيِّعْها
وْما بْتِمْرُق لْحْظَه مِنْ دُونِكْ
بكل ثقة، أقول، بأسلوب غنائي، رقيق أحيانًا، ويائس أحيانًا، ولكنه دائمًا نابض بالحياة، إن الشاعر شربل بعيني يأخذنا في رحلة يمتزج فيها الجمال بالظلم، وتتحاور فيها الذاكرة مع الأحلام، وتتحول فيها الكلمات إلى مقاومة، وتحلم القصائد بمزيد من السلاسة والوضوح والطابع الموسيقي:
خارطةْ لُبْنانْ قدّامي
كلّ الْمدُنْ نجْماتْ
وكلّ الضِّيَعْ أَزْهارْ
بْتِرْقُص مع النَّسْماتْ
ووحدي بْهالْغُرْبه
تعبانْ مِن حالي
بِهْرُب من خْيالي
بْبَوِّسْ إسمْ لُبْنان عَ الْوَرْقَه
بَوساتْ لازمْ إقْطفا سِرْقَه
وْغِصّ بالحَرْقَه
مَصْلُوب عَ هَمّي
ماشي عَ قَبْري
متل طفل زْغِير
.. وناطِر قَبر أمّي
إن الكون الشعري الذي يتكشف هنا حميم وعالمي، يحمله صوت ملتزم، شغوف، ورمزي بعمق. هذه القصائد لا تصف العالم فحسب؛ بل تسائله، وتغيره، وتعبر عن الأمل.
إن سلاسة موسيقاها، ووضوح معانيها، وتماسكها الشعري، كلها عوامل تُعزز تأثير كل صورة وكل كلمة.
هذه المجموعة تُشيد بالشعر الملتزم، بقوته الاستثارية والتحويلية، وقدرته الفريدة على توحيد القلب والعقل والنضال:
الأَبْطَالْ.. أَعْتَقْ مِنْ زَمَنْ
أَكْبَرْ مِنِ الْكِلْمِه اللِّي بَدّنَا نِحْكِيَا
هِنِّي الدَّهَبْ..
هِنِّي الْخَوَاتِـمْ بِالْعِلَبْ..
هِنِّي فَرَحْنَا الدَّايِم بْحُضْن الْوَطَنْ..
هِنِّي الْحُدُود الْـ عَم تْزَيِّحْهَا الْقُلُوبْ..
هِنِّي الدُّرُوبْ السَّالْكِه بْلَيْل الأَلَـمْ.
يَا كِلْمِة الْـ مَا يَوْمْ قِرْيِتْهَا الْعُيُونْ
لِفِّي عِينَيْهُنْ بِالْعَجَبْ!
تتمتع القصائد بنفحة خيالية، رقيقة، ويائسة، بالإضافة إلى قوة درامية، وقوة رمزية، والأهم من ذلك، أسلوب شعري وخيالي فريد من نوعه للشاعر شربل بعيني:
صِرت الْوَعِي..
قَلْبِي الْـ كَانْ يِرْجِفْ مِنْ صَوْت الْمَدْفَعْ
صَار مْحَجَّرْ..
دَيِّي الْـ رِبْيِتْ عَ التِّزْقِيفْ.. قْطَعْتَا.
صَوْتِي الْـ كَانْ يْهَوْبِرْ.. وِيْعَيِّطْ.. وْيْحَيِّي..
كِلْ مَا سِمْع خْطَابْ بَلْعُو الصَّدَى.
صَوْتِي تْغَيَّرْ.. وْأَنَا تْغِيَّرْتْ.
يتمتع الشاعر شربل بعيني بقوة تعبيرية آسرة. كل بيت في مختاراته ينكشف بنسمة غنائية، عاطفية، وملتزمة. تزخر الرموز، حاملةً معاني ورؤى، بين يأسٍ رقيق وتطلعٍ إلى عالم أفضل. هذه القصائد، الحميمة والعالمية، لافتة للنظر لقوتها الدرامية، ووضوح عاطفتها، وموسيقاها العميقة. انسيابها وتماسكها الشعري يمنحان القارئ رحلة عبر الاضطرابات الكبرى للروح والعالم:
وِقْفِتْ.. عَ إِيدَيْهَا غْبَارْ
بْنِصّ الدّكَّان الْمَنْفُوخْ
بْأَجْسَادْ النَّاسْ الضّجْرَانِه
وْقَالِتْلُنْ كِلْمَات بْتِدْبَحْ:
ـ رِدُولِي إِبْنِي مْنِ الْمَوْتْ!
.. وْطَارِتْ عَنْ أَحْنَاكْ النَّاسْ
ضِحْكَات بْتِقْرَفْ مِنْ حَالاَ..
كِلْمَاتْ.. مْقَطَّعْهَا الْبُغْضْ،
خَزْقِتْ دِينَيْهَا وْمَا خَافِتْ..
وِقْفِتْ بِوْجُوهُنْ تِتْحَدَّى،
وْصَابِيعَا تْفَرْفِطْ نَظْرَاتُنْ:
ـ إِنْتٌو يَللِّي غْدَرْتُوا بْإِبْنِي
إِنْتُو يَللِّي سْرَقْتُوا إِبْنِي
إِنْتُو يَللِّي قْتَلْتُوا إِبْنِي
رِدُّولِي إِبْنِي مْنِ الْمَوْتْ!
في هذا العمل، يصبح الشعر صرخةً، حلمًا، ذكرى، ونضالًا. إنه يُنير، ويُهزّ، ويُعزّي. إنه لغة القلب، لغة الشعب، لغة الحرية.
في كل بيت، يتردد صدى صوت شاعرٍ ذي أسلوبٍ فريد، تُشكّل صوره القوية وثورته الرقيقة خيالًا إنسانيًا نابضًا بالحياة وعميقًا:
لِعْبُوا فِينَا..
تْصَاوِيرْ افْتَكْرُونَا وْصَارُوا:
يِمْحُوا الْعِينَيْنْ الْـ عَمْ تِقْشَعْ
يِلْغُوا شْفَافْ الْـ بَدَّا تِحْكِي
يْقِصُّوا الإِيدَيْن الْمَرْفُوعَه
بْوِجّ الطُّغْيَانْ الْـ عَمْ يِكْبَرْ
بْوِجّ الْجُوع الْـ عَمْ يِحْصدْنَا..
لَكِنْ نِسْيُوا إِنُّو نِحْنَا
مِنْ هَـ الدَّمّ الْـ عَمْ يِتْفَجَّرْ
فِينَا نْفَبْرِكْ جِيلْ جْدِيدْ
يِرْسُمْ حِيطَانْ.. شْبَابِيكْ
وِيْخَرْطِشْ أَوْطَانْ..
وْيِلْغِي كِلّ شِي فِي بِالأَرْضْ مْقَابِرْ.
في عالم اعمى تحلم القصائد بمزيد من السلاسة والوضوح والطابع الموسيقي. لديها أسلوب غنائي وعاطفي ورمزي عميق. إنها مليئة بالسلاسة والتماسك الشعري والتأثير:
لا تركضِي..
بْخَافْ إِنِّكْ تُوقَعِي
وْيِتْخَرْبَط مْسِيرْ الأَرْضْ
الأَرْضْ.. مْعَلّقَه بِزْرَارْ فسْتَانِك!
لا تضحَكِي..
بْخَافْ مِنْ كِتر الضِّحكْ
يِتْخَزّقُوا تْيَاب الْقَمَرْ
تْيَاب الْقَمرْ.. مَنْشُورَه عَ شْفَافِكْ!
القصائد في عالم اعمى قوية ومؤثرة، غنية بالرمزية والعاطفة. انها قصائد تتمتع بقوة تعبيرية كبيرة ونفس ثوري مثير للإعجاب. قصائد ذات كثافة درامية كبيرة، تمزج بين الألم والعدالة والثورة:
حِبَّيْتِكْ يَا بِنْت بْلادِي بْكلّ عْذَابِكْ..
بِالْكَدْمَاتْ اللِّي تَرْكُوهَا فَوْق زْنُودِكْ
فَوْق الصَّدْر الْـ بَعْدُو أَطْهَرْ
مِنْ كلّ " الْكُتْب " الْـ قِرْيُوهَا..
حِبَّيْتِكْ تَا صِرْتِي الْعُرْس
الْـ مُشْ رَحْ إِرْضَى يْفَارِقْ بَالِي..
وفي الختام أقول، وبكل صراحة، إنها قصائد متماسكة، ذات سلاسة وتأثير شعري وسهولة في القراءة وقوة شعرية. توضح المعنى وتعزز قوة الصور كما وتضفي سلاسة على الإيقاع مع الحفاظ على النفس الغنائي والملتزم والحميم للشاعر شربل بعيني، وتتمتع بالنفس الخيالي والحنون واليائس، والاسلوب الشعري الرائع، ونبرة الصور الشعرية الجميلة.